(أدب العالم) : وجهة النقد الأدبي في عالم التجارة الحرة


في كتابها “احتضار فرع معرفي” (2003) تتبع الناقدة غياتري سبيفاك تراجع سطوة الأدب المقارن بوصفه مدخلاً تقليدياً راسخاً في مقاربة أدب “الآخر”. وتنافح سبيفاك عن الأدب المقارن لتمسكه بقراءة الأدب في لغته الأصلية، معتبرة أن فقدان هذا الامتياز لصالح الاعتماد على عملية الترجمة وقراءة النصوص في اللغة المستهدفة هو من أوجه الإمبريالية الثقافية. فبالنسبة إليها تمثل الثقافة ثقلاً مركزياً في عملية التحليل النقدي، بحيث يبدو التخلي عن دراسة النص في اللغة الأصلية – اللغة التي هي عجلة الثقافة كما تقول سبيفاك – تخلياً عن العدل الحميم الذي هو وقود كل قراءة مسؤولة.
تعتبر سبيفاك أن مهارة القراءة الحميمة للنص الأدبي في لغته الأصلية من أفضل خصائص الأدب المقارن التي يتعين تداركها بتشجيع الطلاب على تعلم اللغات الأخرى باستخدام طرائق تعزز ملامسة النصيَّة (سبيفاك، 6). بينما تتزاحم شكوكها تجاه نقد يعتمد فقط على النص المترجم، مع محاولات جدية لإنعاش الحياة في الأدب المقارن المحتضر:

غياتري سبيفاك
غياتري سبيفاك

“الدراسة اللائقة للأدب قد تمنحنا مدخلاً لأدائية الثقافات كما يتمثلها السرد. هنا، نحن وقوف بالخارج، لكن ليس بوصفنا أنثروبولوجيين؛ بل بوصفنا قراء يتمتعون بخيال مستعد بشكل كاف لجهد تقصي الذات في مرآة الآخر، حتى ولو على نحو منقوص، كغاية في حد ذاته. إنها تجربة بعينها، لأنها لا تستحث…إلا في شرط تغزير العدالة (تجاه النص)، وفي تجربة النشوز والتفاوت الذي لا يمكن التنبؤ به” (سبيفاك،13).

حتى قبل أن تكبر فقاعة الاتجاه النقدي الجديد، المسمى (أدب العالم) وتأخذ حيزاً في مداولات النقد الأدبي في الألفية الجديدة، أبدت سبيفاك شكوكاً قوية، منذ عام 2003، في منطلقات هذه النظرية المتفاقمة المتأهبة لوراثة مفترع ذي تقاليد عريقة في النقد، هو الأدب المقارن، الذي تحاول سبيفاك تخليصه من نزعته الغرب-أوربية المنغِّصة.
من جهة أخرى، يقول فرانكو موريتي، أحد عرَّابي (أدب العالم)، إن النزعة الكوزموبوليتانية التي تميز (أدب العالم) عرَّت انغلاق الأدب المقارن “حسناً، المسألة كالتالي: الأدب المقارن لم يرتق أبداً “لتلك البدايات الموعودة”، لقد كان بالأحرى محاولة فكرية متواضعة، محصورة بشكل رئيسي على أوربا الغربية، وفي المجمل تدور حول نهر الرون (نقاد فيلولوجي ألمان يدرسون الأدب الفرنسي)، لا أكثر ولا أقل” (موريتي، 54).
لكن، ما هو (أدب العالم) على أي حال؟ أو بالأحرى، (أدب العالم) كله؟ الأدب كله والعالم كله مرة واحدة؟ هل العالم في (أدب العالم) هو الجغرافيا، التاريخ، أم كلاهما؟

جوته في مرآة الآخر

(أدب العالم) هو أحدث اتجاهات النقد الأدبي المنظر له. وقد بدأ في التوغل تدريجياً في المداولات الأكاديمية النقدية منذ أواخر التسعينيات على حساب الفرع الآخر الأشد سطوة، وهو دراسات ما بعد الاستعمار، التي يقودها الثلاثي الجِهْبَذ إدوارد سعيد، وهومي بابا، وغياتري سبيفاك. اليوم، يعتبر (أدب العالم) مقاربة معتمدة في الممارسات الأكاديمية الغربية تدريساً في الجامعات، وتنقيباً في البحوث الفردية والجماعية، ونشراً في الدوريات، وإدراجاً في المصنفات. أحصى مادس سمبسون، أستاذ الأدب المقارن في جامعة آرهوس بالدنمارك، أربع دور نشر رئيسية، هي: نورتون، وبدفورد، ولونجمان، وهاربركولينز، بادرت إلى نشر أنطولوجيات كبرى مخصصة لـ(أدب العالم) بدءاً من العام 1997، إضافة إلى عدد من المراجع الأمهات للفرع الجديد (سامبسون، 1).

بدأت بذور كامنة لنظرية (أدب العالم) في التململ في نهاية القرن العشرين على أيدي النقاد ديفيد دامروش، وفرانكو موريتي،

جوته
جوته

وباسكال كازانوفا، وآخرين. إلا أن فكرة ومصطلح (أدب العالم) هي غرس الشاعر الألماني جوته الذي كان أول من صك المصطلح Weltliteratur وذكره، بشكل لا يمكن وصفه بالعرضي، في محادثة مع صفيه وتلميذه يوهان ايكرمان عام 1827.
مثقل القلب من انكماش أفق الأدب الألماني- كم يبدو ذلك خيالياً وغير متصور الآن- طمح جوته إلى مجيء (أدب العالم)، إلى فضاء أدبي أكثر انفتاحاً لتأثير الآداب واللغات الأخرى:
“ما أسهل وقوعنا، نحن الألمان، في الغرور المستتر؛ بالكف عن النظر أبعد من الدوائر الضيقة التي تحيط بنا. لذا، أجد في نفسي ميلاً للبحث عني في الآداب الأجنبية، وأنصح الجميع أنِ افعلوا. الأدب القومي، الآن، مصطلح مفرغ من المعنى؛ فعهد أدب العالم أرهص في الأفق، وعلى الجميع السعي حثيثاً للتعجيل بوفوده” (سمبسون،11).
يعتقد مادس سمبسون أن فكرة جوته مثالية ولا تخلو من غشامة سياسية. بينما نوهت كازانوفا إلى أن استخدام جوته لمصطلحات ومفاهيم اقتصادية في نظرته إلى الأدب ليست عفوية ” ليس ثمة مجال أن يكون الاستخدام المتعمد لاصطلاحات التجارة والاقتصاد في نصوصه مجازياً، يسري ذلك على جوته مثلما يسري على فاليري. فجوته من ناحيته طرح الفكرة الواضحة لـ” تجارة بين الشعوب قوامها الأفكار” مشيراً إلى “سوق عالمي للتبادل” (كازانوفا،14). بعد عشرين عاماً على محادثة جوته وايكرمان ورد مصطلح (أدب العالم) في سياق أكثر إشكالية عندما تناوله كارل ماركس وفريدريش انجلز في المانفستو الشيوعي عام 1848، إذ نوقش الأدب هذه المرة، بضراوة أشد، في سياق علاقته بالاقتصاد العالمي، في فتح ما يزال خلاقاً:
“عبر استغلالها للسوق العالمي أضفت البرجوازية ملمحاً كوزموبوليتانياً على الإنتاج والاستهلاك في كل بلد. ولإحراج القوى الرجعية سحبت البرجوازية من تحت أقدام الصناعة بساط القومية الذي لطالما استندت عليه. إن جميع الصناعات القومية الراسخة القديمة تم تدميرها أو يجري يومياً تدميرها… وفي محل الاكتفاء بالذات، والعزلة القومية والمحلية الدارسة، ثمة تداخل وتشابك في جميع الاتجاهات، اتجاه عالمي لاعتماد الأمم على بعضها البعض. يسري ذلك على الإنتاج الفكري سريانه على المادي. فالأعمال الفكرية لكل أمة منفردة صارت مملوكة على الشيوع. وبمرور الوقت صار الانغلاق والتحيز القومي أحد المستحيلات؛ من هذه الآداب القومية والمحلية الشتى سينشأ أدب العالم” (سمبسون، 13).
في قراءة سمبسون وآخرين؛ فإن الأدب لدى ماركس وإنجلز هو في الحقيقة سلعة في سوق الإنتاج. كان ذلك يعني وجوب إنتاجه وتوزيعه بطريقة معقولة في قنوات الاقتصاد العالمي. كما يعني أن (أدب العالم) يعمل بوصفه أداة أيديولوجية تربط بين الشعوب وتجعلها على وعي باعتمادها على بعضها البعض. لكن، ما يهمني هنا أنّه، تحت الضوء الماركسي الجديد، الأشد وعياً بتركيبية العلاقات بين الطبقات، والأمم أيضاً، بدت إشارة جوته الغامضة إلى أدب أجنبي في حاجة إلى تمحيص. الواقع أن آمال جوته في النظر في أدب أجنبي، وحرصه على تشجيع الناس على ذلك، كانت تتحرك في فضاء يحتدم فيه رالي التوسع الإمبريالي الأوروبي تحت ضغط فكرة السوق العالمي، ومن ثم المحتكر العالمي. فبينما كان جوته وايكرمان يتحاوران، كان النفوذ الأوروبي تعمق بالفعل في أراض غير أوروبية. والآداب الأجنبية التي أشار إليها جوته هي آداب الشعوب التي كانت بالفعل أو ستكون في المستقبل القريب تحت قبضة الإمبريالية الأوروبية، بما في ذلك أجزاء من أوروبا نفسها. إن اهتمام جوته بالرواية الصينية والأدب العربي والفارسي معروف، ولا يصعب تخيل الظلال التي ترددت في مخيلته حين أشار إلى الأدب الأجنبي. لكن صوت جوته كان مثل صلاة خافتة تحت القصف. فالمضمون أن أي إشارة إلى الآخر الأجنبي من وجهة نظر أوروبية في عام 1827 تحمل بالضرورة إحالة استعمارية. فقد كانت الإمبراطورية الألمانية في احتراب وتنافس، حول الحدود داخلياً، وحول المستعمرات في آسيا مع كل من فرنسا ما بعد نابليون، من جهة، والإمبراطورية البريطانية من جهة أخرى. كانت حمى السفن والجيوش الغازية التي بدأت منذ قرنين في أشدها. والعالم الأجنبي يعني واحداً من اثنين: مستعمرة أو مستوطنة. انتهت معركة بلاسي في البنغال بانتصار العرش البريطاني في عام 1641 ليبدأ ترويض أهم مستعمرة بريطانية؛ شبه القارة الهندية. وسيطرت بريطانيا أيضاً على كيوبيك في 1759، بينما حطت أول الأساطيل الأوربية منذ عقود في أستراليا في عام 1788. وحط نابليون في مصر عام 1798، وضمت الإمبراطورية البريطانية أيرلندا عام 1801. باختصار، كانت أوروبا في حالة غزو؛ ومولت السفن حمّالة الجيوش إلى رأس الرجاء الصالح في 1806، والهند في 1818، وسنغافورة في 1819، وبورما في 1824 (بومر، 260). ربما تكون أمريكا هي الاستثناء بحصولها على الاستقلال في 1776، لكن خمسين عاماً من الولايات المتحدة الأمريكية كانت بالكاد كافية لمحو وصمة استيطانية بدأت بمجزرة ضد السكان الأصليين. كان تشوق جوته للاتصال بأرواح الحضارات الأخرى مشوباً بالتاريخ، بعجلة استعمارية أعادت صنع العلاقة بين الداخل والخارج، مع ذلك رأى جوته في الأدب وسيلة حقيقية للثراء، متجاوزاً بذلك المراهقة الروحية المضطربة التي سجنت أوروبا في رغبة إخضاع العالم، والتوسع على حساب الكيانات الأخرى؛ يقول جوته: “تزداد قناعتي كل يوم أن الشعر هو ملكية عالمية للإنسان، كاشفاً عن ذاته في كل مكان، في كافة العصور، في المئات والمئات من الشعراء” (دامروش، 1)، هذا هو صوت الشاعر، الذي يبدو الآن، في أي نظرة استعادية، خريطة أكثر حكمة وواقعية من فكرة “لنضم فشودة بسرعة قبل وصول البريطانيين إليها”.
على أي حال، مع هاتين الإشارتين العائدتين إلى القرن التاسع عشر، يصح القول إن جذور (أدب العالم) نمت في تربة الحداثة الأوروبية وتتصل عضوياً ببنياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. انبعثت رؤية جوته النبوئية في المؤسسات الأكاديمية الأوروبية والأمريكية عندما ازدهرت مدارسات متعمقة في (أدب العالم) في تسعينيات القرن العشرين. وضع ديفيد دامروش في كتابه المرجعي “أدب العالم..ما هو؟” الصادر عام 2003، تعريفات ثلاثة للعمل الأدبي الذي ينتمي إلى (أدب العالم): يدخل العمل الأدبي في زمرة أدب العالم “باستقباله في فضاء ثقافة أجنبية تحدده، بطرق شتى، التقاليد القومية للثقافة المضيفة والحاجات الحالية لكتاب هذه الثقافة” (دامروش،200). يدور التعريف الثاني حول اللغة، حيث نرى بوضوح الارتباط العضوي بين (أدب العالم) والترجمة ” أدب العالم هو الأدب الذي يزكى في الترجمة” (دامروش، 201). فخلافاً لتقاليد الأدب المقارن الذي ينظر الأدب في لغته الأصلية، لا تعتبر الأخيرة عاملاً محسوباً في معادلة (أدب العالم) القائمة كلياً على الترجمة. وفقاً لتعريف دامروش فإن الأدب القومي يتحول إلى أدب – عالمي حين ” يتم تداوله في فضاء أوسع متجاوزاً حدود أصله اللغوي” (دامروش،200). التداول هنا يعني الترجمة والنشر والانتشار. بوضع سياسات الترجمة في الاعتبار، وتوطن النشر في الصناعة يمكننا إدراك أن (أدب العالم) يؤوي تحالفاً عضوياً مع المادة. فالدول المهيمنة على المشهد الأدبي اليوم هي التي تزدهر فيها صناعة الكتاب، والترجمة والنشر. وبينما يطرأ كتاب من خلفيات أخرى على المشهد العالمي، فإنهم هناك لتعزيز الاستثناء الذي يعزز القاعدة. إن الترجمة بوصفها خطاً فاصلاً بين العمل الأدبي القومي و(أدب العالم) هي أيضاً الخط الفاصل بين الأدب المقارن والتيار النقدي الجديد. ومن هنا يمكننا فهم خطورة الانتقال إلى نقد لا يقرأ العمل في نصه الأصلي. تتضح هذه المخاطر بنظرة واحدة إلى مؤشر اليونيسكو للترجمة لعام 2014 حيث تحتكر اللغات الأوروبية المواقع الخمسة عشر الأولى في مقياس اللغات المترجم منها (اللغات الأصلية) من جهة، ومقياس اللغات المترجم إليها (اللغات المستهدفة) من جهة أخرى، باستثناء وحيد هو اللغة اليابانية في المقياس الأول، واليابانية والصينية في المقياس الثاني. على ذلك، يصح القول إن الغرب يكتب نفسه ويقرأ نفسه ويترجم نفسه لنفسه.
ذلك دون إهمال أن بعض هذه اللغات، نتيجة لسياسات استعمارية، تم تبنيها في أقاليم أخرى من العالم. لكن يبدو أن ذلك ليس له أثر كبير في انتظام سيطرة الغرب على الترجمة، مع مقاومة آسيوية قوامها اليابان والصين والهند في مقياس الدول.
التعريف الثالث للعمل الأدبي الذي يقع في حيز (أدب العالم) يكشف عن توتر آخر. فعبور العمل الأدبي لمحيطه الأصلي باتجاه حيز لغوي وثقافي مختلف يعني دخوله في أفق تراسلي جديد. إن العمل الأدبي في حيز (أدب العالم) هو بالضبط انحرافه عن هويته الأولى، محليته أو قوميته التي صدر عنها ليتحول إلى مرآة تتفحص فيها الثقافة الأخرى نفسها:
“في حيز (أدب العالم) حتى العمل الأدبي المفرد هو محل تفاوض بين ثقافتين مختلفتين. الثقافة المستقبلة بإمكانها استخدام المادة الأجنبية بشتى الأوجه: بوصفها نموذجاً إيجابياً يغذي تطور تقاليدها المحلية في المستقبل، أو بوصفها حالة سلبية، جنوحاً أو تفسخاً، يجب تفاديه أو منع تجذره محلياً، أو بشكل أكثر حيدةً، بوصفها صورة للغيرية الجذرية التي في مقابلها يمكن تعريف التقاليد المحلية على نحو أشد وضوحا” (دامروش، 201).

الفضاء الأدبي العالمي
باسكال كازانوفا من أهم الأصوات في نظرية (أدب العالم). خرجت كازانوفا من معطف الفيلسوف والناقد الفرنسي بيير بورديو، واعتمدت نظرية “الحقل” التي افترعها بورديو في التسعينيات نقطة انطلاق في عملها الرئيسي وهو مؤلف بعنوان “جمهورية الأدب العالمي”، نشر في باريس عام 1999. وكتاب كازانوفا هو بالأصل رسالتها لنيل الدكتوراه التي أشرف عليها بورديو. أزهرت شجرة جوته في أرض فرنسية.

كازانوفا
كازانوفا

تتأسس نظرية كازانوفا على وجود فضاء عالمي، تتحرك فيها مجرات الأدب بسرعات ووفق قوانين مختلفة. تسعى كازانوفا، بالأخص، إلى تعرية طبيعة هذه القوانين. إن قيمة فكرة فضاء عالمي للأدب تكمن في إمكانية رسم خريطة أوضح للأدب بوصفه نشاطاً كونياً متلاحماً. جمهورية الأدب هي إذن أطلس يمكننا من النظر إلى (أدب العالم) في علاقته ببعضه البعض عبر خرائط مفتاحية تزداد تعقيداً كلما توغلنا فيها. لكنها، على الأقل، توفر الحد الأدنى من فهم الأدب في علاقته بالتاريخ، والجغرافيا، والسلطة والاقتصاد. يرتكز نموذج كازانوفا على قراءة علاقات القوة، وتوسم العنف والإقصاءات التي يتحجَّب وراءها الأدب كمؤسسة وتقاليد ممارسة. وتشير كازانوفا إلى أن الأدب يوجد في فضاء تحكمه شروط تقع خارج العملية الإبداعية نفسها، وما لم يتوافر قدر كبير من تراكم الرصيد الأدبي لشعب ما، يظل الأدب الذي يصدره محكوماً بعوامل سياسية واقتصادية على نحو لا فكاك منه. بالنسبة إلى كازانوفا، لا يوجد شيء اسمه أدب مستقل إلا كاستثناء مشروط بتراكم الأصول الذي يؤدي بالأخير إلى الثراء الأدبي. في تلك الجمهورية يظهر لنا أن الأدب قطعاً ليس نشاطاً منزهاً وطليقاً، وليس على الأخص تمريناً فردياً على العبقرية. تطعن كازانوفا في مسلمات رومانسية الأدب، ونقاء الفني من السياسي. وإذ بالكاد نستدعي، لنقل، صورة الكاتب في البرج العاجي، فقط كمجاز، نجد أن كازانوفا لا ترفض المجاز بل تقوضه بتسليمنا خريطة كروكية للبرج، وقوائم تفصيلية تحوي إحصاءات تخص بناءه، وتنظيفه، وما إن كان ثمة غرف تعذيب سرية، وكم فيلاً قتل لتوفير العاج، وفي أي كنغو. تدرس كازانوفا سوسيولوجيا الأدب الأوربي وتداخلاته مع الآداب الأخرى خارج أوهام الأدب كنشاط منقطع، معزول، فرداني.
بالنسبة لكازانوفا، أولاً وقبل كل شيء، الأدب منتهب ومجير لصالح نظام الأمة/ القومية السياسي الذي يحكم عالم اليوم. تشير كازانوفا إلى القرن التاسع عشر، قرن نضوج القوميات والدولة السياسية كما نعرفها اليوم، بوصفه الفضاء الذي تولدت فيه علاقة ترابط ما زالت تحكم تناولنا للأدب “إن لاوعينا الأدبي في معظمه قومي. أدواتنا في التحليل والتقييم أيضاً قومية. وبالتأكيد، فإن دراستنا للأدب، في كل مكان تقريباً، قائمة على أسس قومية” (كازانوفا،11). بالفعل، ففي أبسط الإشارات نجد أنفسنا، دون وعي تقريباً، ننظر إلى لوركا بوصفه ليس أسبانياً فحسب بل أسبانيا نفسها. ننظر إلى القاص ناجي البدوي بوصفه، أولاً وقبل كل شيء، كاتباً سودانياً، رغم أن حتى ذلك لا يسوغ وجوده في فئة واحدة مع القاصة بثينة خضر مكي، السودانية بدورها. لقد ظل محمود درويش فلسطينياً حتى، بل بالأخص، في غياب الدولة الفلسطينية. كما أن العقاد وطه حسين مصريان، وهل يمكن أن يكونا غير ذلك؟ بالمقابل، عندما نفكر في الحلاج، وابن عربي، وسبينوزا، وسيرفانتس، وابن الرومي، وعمر بن الفارض، ناهيك عن مجنون ليلى وبقية العشاق المشردين، لا تطرأ القومية، لا تطرأ الدولة ولا القومية السياسية، والسبب معروف، هذه كلها طوارئ. لكن الدولة القومية السياسية الطارئة استخدمت الأدب ضمن أسلحة أخرى لتعزيز الهيمنة والنفوذ القوميين.
وللمفارقة، تحرم هذه الهيمنة عينها وول سوينكا، وشنوا أشيبي وتعبان لوليونج من التأهل حتى لهذه القومية المكرسة التي يسعى الكون لتجاوزها الآن، فهؤلاء الكتاب هم “كتاب أفارقة”. من المستبعد أن يحيل اسم تعبان لوليونج إلى السودان أو يوغندا. ذلك لأن أفريقيا ليست مؤهلة بعد لجمباز الحداثة. أفريقيا، جنوب الصحراء الكبرى، ما تزال كتلة ضخمة غامضة يمكن اختصار آدابها في “الأدب الأفريقي” الذي ما يزال سجيناً، بالنسبة للنقد، في دوال الثقافة الشفاهية، التراث، الثيران العجفاء، النمو في القبلية، وطبعاً “التقاليد” الأفريقية.

في استعراضه لجهود المؤرخ يوسف بالا عثمان الكاشفة، ينبهنا محمود ممداني إلى خطورة مدخل “التقاليد” في النظر إلى كل ما هو أفريقي، حيث يلجأ الجاهل بالوقائع والسياقات إلى ذريعة “التقاليد” لستر ذلك الجهل ” كل اللغط حول التقاليد يُكلس الأنظمة (في أفريقيا) بوصفها متحجرات مفتقرة إلى عامل التغيير بينما هي دائماً في مهب الحراك التاريخي”. وحيث تعمل التقاليد كأداة بلاغية نجد أنه “بما أن كل فقرة في الكتابة التأريخية تبدأ بنقطة ما، فإن خلفية هذه النقطة تصور كأنها عاطلة من الحراك التاريخي، وبدلاً من ذلك تصبح الخلفية هي  التقاليد” (ممداني، 95).

لنعد الآن إلى جمهورية الأدب. تقول كازانوفا، إن الفضاء الأدبي العالمي قائم على علاقات تنافسية وتراتبية تحكمها عوامل

محمود ممداني
محمود ممداني

الاقتصاد والسياسة. وضعت كازانوفا باريس، بشكل مؤقت، في قلب هذا الفضاء وتناولت بشكل تفصيلي تأثر الأدب الأوروبي والعالمي بفترات الازدهار والكساد السياسي والاقتصادي للدول. هناك إذن دول غنية أدبياً، عالم ثالث أدبي، اقتصادات أدبية، حروب ونزاعات أدبية، نمور آسيوية أدبية، تنافُس وتوتُّر قوامه التفوق الأدبي. تجادل نظرية (أدب العالم) النقدية بأن هناك توزيعاً غير متكافئ للأصول والثروات الأدبية يمكن رصده بالنظر في خريطة العالم الأدبية التي يحكمها “نظام غير متكافئ على نحو جذري” كما يقول فرانكو موريتي. على ذلك فإن (أدب العالم) كما تعكسه الخريطة لا يعترف بالتعايش بل بالتنافس حول الموارد الأدبية، حيث ثقافة الهامش ” تُخترَق وتُحوَّل على يد ثقافة أخرى (من المركز) لا تكنُّ لها إلا التجاهل الكلي” (موريتي،56).
الجديد الذي أتى به نقد (أدب العالم) هو كسر الحلقة الكلاسيكية التي ظل النقد يدور فيها منذ أرسطو إلى سبيفاك: هل يجب قراءة النص الأدبي قراءة لازمة أم متعدية؟  القراءة المتعدية تنظر في السياق التاريخي، في سيرة الكاتب الذاتية، في تراسلات النص مع العالم خارجه، في الآباء الروحيين للكاتب، وفي موقف أمته منه وموقفه هو منها ومن لغته. القراءة اللازمة تعتقد في النص ذاته، كشهادة مانعة مكتفية بمادتها وخالقة لعالمها وسياقها. الآن، تقول كازانوفا، إنه حان الوقت لتجاوز هذا الاستقطاب. يقترح (أدب العالم) قراءة النص في علاقته بـ(أدب العالم) كله. إن التفسير الأدبي الآن ينظر ليس في السياق التاريخي للعمل بل في مكانه من الكل، في الإحداثيات التي يحتلها في خريطة جمهورية (الأدب العالمي) “يمكن فك شيفرة العمل الأدبي فقط على أساس المنتوج الأدبي في مجمله، إذ أن تماسكه المستعاد يمكن كشفه فقط في علاقته بالعالم الأدبي كله الذي يصبح العمل الأدبي جزءاً منه” (كازانوفا، 3).

بتخليه عن الاقتراب الحميم من النص، يتنازل النقد الأدبي عن هامش هائل من التحري والطراد والاستطراد والاستعادة، لكن قد يكون ذلك ثمناً لرؤية الصورة الكاملة للأدب في العالم. مع ذلك، ليس من الضروري أن تكون جمهورية الأدب العالمية هي الخريطة الوحيدة الممكنة، فمثل كل جمهورية أخرى في العالم ستنشأ فيها لا بد جيوب مشاكسة تسعى لتقويض الصحيح.

ابراهيم اسحق
ابراهيم اسحق

لكن، إلى ذلك الحين، كم تبدو الصورة قاتمة بالنسبة لنا نحن كتاب السودان، كتاب العالم الثالث، كتاب النمو في الدولة النامية، كتاب ما بعد الاستعمار في نقد عالم التجارة الحرة. أين ستكون فئتنا الناجية التي ستعبر حواجز الترجمة والنشر والتداول لتكون جزءاً من تراث العالم الأدبي؟ يتساءل الواحد كيف يمكن أن يندرج صوت في أهمية القاص والروائي السوداني إبراهيم إسحق في جمهورية كازانوفا الأدبية؟ كيف نقرأ إحداثيات موضعه في خريطة (أدب العالم)؟ كيف نجد له مقعداً خارج فترينة “التقاليد” الأفريقية، خارج دارفوره، خارج سودانيته، وخارج الطيب صالح؟
ربما تكشف هذه الأسئلة الطبيعة الإشكالية التي ينطوي عليها نقد أدب العالم. فمن ناحية يزكى الأدب بالترجمة، ويحظى بحياة جديدة، قراء جدد وتمثلات جديدة. في المقابل، فإن الأدب غير المترجم ليس موجوداً على خريطة العالم، إلا بوصفه منتجاً محلياً غامضاً، مزخرفاً أكثر من اللزوم، مثل كل شيء ينبت في تربة العالم الثالث.

(1) القراءة اللازمة هي ترجمتي لما عرف في النقد الأدبي ب close reading في مقابل القراءة التي تأخذ في الحسبان السياق التاريخي للنص. اختار بعض النقاد العرب من بينهم د. جابر عصفور استخدام ترجمة” قراءة فاحصة” وهي ترجمة في ظني لا تفي بالمعنى لأن حتى القراءة التاريخية للنص الأدبي، الماركسية مثالاً، يمكن أن تكون قراءة فاحصة. هذا الخلط مصدره أن مفردة فاحصة فيها ظلال تقييم ايجابي للقراءة (قراءة فاحصة في مقابل أخرى متسرعة) لكن قراءة لازمة يمكن أن تجري اصطلاحاً لتفي بمعنى لزوم النص والوقوف عنده بتجاهل ما يقع خارج حدوده. يسري الأمر على القراءة المتعدية بالتبعية.

ــــــــــــــــ

المراجع:

Spivak, Gayatri: Death of A Discipline, New York: Columbia University Press, 2003
Damrosch, David. What is World Literature, London: Princeton and Oxford, 2003
Casanova, Pascale: The World Republic of Letters, Trans.M.B.Debevoise. USA: Harvard Press, 2007.
Thomsen, Mads: Mapping World Literature: International Canonization and Transnational Literatures, New York: Continuum International Publishing Group, 2008.
Moretti, Farnco: Conjectures on World Literature, New Left Review, 1, 2002
Boehmer, Elleke: Colonial and Postcolonial Literature, New York: Oxford University Press, 2005
Mamdani, Mahmood: Define and Rule: Native as Political Identity, USA, 2012.