إلى عثمان حامد سليمان
هل يمكن تشريح الأصالة؟ هل يمكن الكشف عن شعوبها الداخلية دون مجزرة؟ أنا مدفوعة هنا بالحجب الأصيلة التي يغزلها الغناء السوداني حول نفسه فيبدو لنا أحياناً شيئاً محيراً، لامع الحيرة. عندما نتجرد من العصاب الذي نسميه الفهم، وننطلق في رحلة متحللة من كل غاية، ونستمع إلى الأغاني السودانية بأرجلنا ومصاريننا، نشعر أن الطاقة التي تتهدج في الجو هي، ولا شيء خلافها، الهوية. لكن تظل أصالة هذا الغناء شيئاً غامضاً جداً وعصياً على التعيين. ثمة إستراتيجيات، أعتقد، أيّدت هذه الجذوة التحتية. أولاً تحتجب الأصالة، في معظم الأحيان، في تمويهات هزلية تنتجها قوالب شبه ثابتة محكومة بشهوة الرجز، والطلاقة الشعبية، والنبرة العادية في الكلام. فالغناء في الأساس هو مكان التغزل في اليومي والعادي في أقرب نسخه إلى الواقع. وكلما تشبثت الأغنية بسوقيتها المعروقة، كلما تصير إلى درجة من أصالتها الصحيحة. لكن الفن هو دائماً تدخل معقَّد، فلا نجاة من سطوته، لكن التحايل عليه ممكن. فعندما تبدأ أغنية ابتهالية، فيها تسجيل لمغامرة البلاغ العشقي والوصال الكامل، بعبارة “الحجل بالرجل”- هذه العبارة الخفيفة البلهاء- يكون من الصعب ألا نستسلم مباشرة لهذه العوارة الجذّابة، بحيث يظل منطوق الأغنية وثقلها الجارح محجّباً وغير مبذول. ولذلك، وحين يتعين علينا القفز هولاً حين يقول المغني أشياء من قبيل “حق الهوى الكامل” تجدنا عالقين في العوارة التي ولدتها عبارة “الحجل بالرجل”، فنرضى بالهناء الكثير الذي تسبغه علينا، وننجو من قنص الوصال فيها.
أعتبر عبارة “الحجل بالرجل” من أصوب الشروط، ولا يمكن مقايضة أصالتها بأية بلاغة أخرى. والأغنية التي تبدو مرسلة وعويرة، قائمة في الحقيقة على بنية محكمة، أساسها هذا الشرط الأوَّلاني الذي يظهر في شكل رجاء. والرجاء بدوام الرفقة، في عبارة “الحجل بالرجل” ظاهر، لكن هناك درجة خفية من الإلحاح الصادر عن سلطة معنوية ما. فالتمثيل هنا هو الارتباط الحميم، لكن الذي لا فكاك منه. والتذلل المبذول في “يا حبيبي سوقني معاك” يبدو مفبركاً، لأن عبارة “الحجل بالرجل” فيها سلطة خام، تظل تتوضّح مع كل كوبليه. ففي كل مرة يوضح المغني أن الارتباط شرط يبتلع كل الشروط الأخرى بتأكيد قوامته على ضياعات المحبوب. فمهما سويت يدوم لي هواك، ومهما تستغرب وتتشرد في المفازة وتشقها بالليل وتكاد تهلك؛ تدلك المحبة إليَّ، ليس كرماً مني ولا إنسانية، بل لأن ذلك حق المودة وحق الهوى وحق الليل. لكن كل ذلك التحقيق يدين للعوارة تصدر عن “الحجل بالرجل”، وأظن أن تلك عظمة من عظمات الغناء؛ سماحه بدخول “الكرعين” ومتعلقات مادية مثل “الحجل” و”الشبط”، في حالة عمر الدوش، بوصفها وجودات شعرية غير اعتذارية.
يسري ذلك على بعض المفردات التي لا نتوقع الاصطدام بها في أغنية عاطفية، أو في أي أغنية أخرى، مثل مفردة “مريع” التي استخدمها حميدة أَبْعُشَر في “غضبك جميل زي بسمتك”. على ذكر هذه الأغنية يلزم القول إن حميدة أَبْعُشَر يضع الركّ كله على الاستهلال. تبدأ “غضبك جميل” بعبارة استدراك معلقة في الهواء: “على كل حال، شكلك جميل.. However, you look really nice!. لا نعرف ما يستدركه أَبْعُشَر، فنشعر أننا حضرنا متأخرين بضع ثوان على الحدث الرئيسي. ربما يكون هذا القطع أحد أهم أسرار هذه الأغنية العظيمة؛ لأنه يقوم بنا سدَّاري، يردف المستمع معه في سرج القصة، على الطاير، ونتصل مع الأغنية بمحاذاة سياق غير واضح كلياً لكنه واضح بما يكفي. هنا يصبح التسليم ضرورياً جداً، لأننا لا نعرف أبداً ماذا يسبق هذا الاستدراك، ولا مدعاته، لكن هل يهمنا ذلك؟ يباشر أَبْعُشَر من لحظته الشعورية التي حدث أنها استدراك، ولا يهتم بتبرير ذلك، ولا نطلب منه، بل نرجوه ألا يفعل.
كمستمعين لا نطلب الكثير. في معظم الأحيان يكفينا انخراط أجسامنا في مهادنة الإيقاع. لذلك نستحسن التدوير الذي احتكمت له أغنية “ألحان الربيع” بتكرار لازمة “غني يا طيور غني” التي تتردد مثل عبارة إيحائية تحيل مستقبلاتنا المتحفزة إلى الاسترخاء. نجد أنفسنا شبه مسطولين بسبب القافية: “السرور، زهور، بدور، تزور”، ثم نفتح جوعنا بانتظار اللازمة التي لا تخلف موعدها “غني يا طيور غني”. إننا نقدر محاولة عشَّة الفلاتية إدخالنا في بلاغة حضرية حديثة بأغنية “ألحان الربيع”. ولا نلح في تذكر معنى ربيع، فهو فصل يستحيل تذكره.
كما أننا لا نصدق أياً من ادعاءات هذه الأغنية. لكن هذه المفارقة بالذات، هذا الانفعال بشيء لا يخصنا، هذا الكفر، هو عين علّة انطرابنا الأصيل. إننا نتصل مع عشَّة ومع الربيع كغائبين بوساطة أجسادنا التي تستجيب لطلب “غني يا طيور”، فنغني ولا نهتم بالطيور، أو نكون نحن الطيور. تأخذ حلاقيمنا وأرجلنا ونواصي رؤوسنا بالمهمة، ولا تعود الأغنية في حد ذاتها مهمة. ننطلق خلف الإيقاع والعوارة، السرور الزهور تزور…، وحين ترد عبارة “صدى البدور”؛ فإن أرجلنا تلتقط المفردة التي تكمل جوع القافية، بدور، ولا يكون هناك مكان في هذه السطلة لقفزة التشبيه الكامل، للصورة، للسحرية التي تنطوي عليها عبارة “فتحت ثغور من ضياها نور زي صدى البدور”. ذلك بالضبط هو ما يجعل هذه الأغاني ناجحة وأصيلة في النجاح. إن التعمية على مهالك ومنزلقات الجمال الفني ضرورة فنية سودانية، تضع الأغنية في مكانها الصحيح؛ الوجدان. لأن “الحجل بالرجل” هزل ناعم يسمح بتمرير الصرامة النادرة التي ينطوي عليها “حق الهوى الكامل”، فلا يفلت من أصالتها شيء وتستقر بجلالها كلّه في الوجدان، المكان السليم الذي تستحق. كما أن “ألحان الربيع” كذبة لا نرعوي عنها لأن الحقيقة هي مسألة تفصل فيها خلايانا وأنسجتنا.
يا عوارة الفن
هناك الكثير من الكوميديا في أغنيات إبراهيم حسين، كوميديا غير محسوبة في الغالب، لكن لها يد في توطين العوارة؛ موضوعنا الحالي. وكوميديا إبراهيم حسين تقدم نفسها كملاحظات جدية غريبة الأطوار، من قبيل: “يا تهنينا يا تخلينا”، أو كعبارة خاطئة تماماً مثل: “بينا المسافة الأصلو ما ممكن تقيف”. أو كقطع هزلي لصورة أريد لها أن تكون حزينة مثل: “نغمة حبيسة في خاطري” التي تعصف بها عبارة: “ألملم للفرح وقتي وأقول بختي”. على النحو ذاته يتحول تعاطفنا مع شمعة إبراهيم حسين السهرانة إلى ضحكة داخلية حين تصل الأغنية إلى ذروة مغامرتها البلاغية في “ما عرفوك إنسانة، ليه يا شمعة سهرانة”. لا بد أن أغنية “الشمعة” هي أغنية العوارة بامتياز، لكننا نظل مأخوذين بوجيب الأغنية، متعاطفين مع تعاطف إبراهيم حسين مع الشمعة، ضاربين عرض الحائط بالمزحة كلها، أليس ذلك عين التصديق؟
الجابري لا بد مولع بالمقامرة، وهو كسّاب حريف. لكن أغنية “هاتو الياسمين” هي من أغرب الأشياء التي حدثت في تاريخ الغناء السوداني. لقد راهن الجابري فيها على شيء يصعب التكهن به الآن. من ناحية، أيدت كثيراً من العبارات الدارجة السهلة، فيها ذوق الجابري المعتاد. لكن، يبدو أن هذه التركيبة الكارثية بالذات؛ هذا اللحن الراكض في مقام عالٍ، توسل العبارات اليومية، مع شبهة لسان وخيال مصري في كل كلمة من كلمات المطلع القصير: “هاتوا الياسمين هاتوهو”، أدت إلى هذه الأغنية المفزعة. هذه أغنية تكسب فقط بوصفها أكبر مفاجآت الجابري. فمن كوبليه لآخر، يتم تعذيبنا بمحاولات إقناعنا أن هذه الأغنية تخصنا: “بكل تفصيل/ جات مارة أصيل/ ورتنا مباهج العصريّة”. ثم الأسوأ: “حرف الأشعار راح في الدهشة/ وأظنو كمان جاتو الرعشة/ القلبو رهيف خايف الوحشة/ روّح في دروبك واتغش”. وصولاً إلى أسفل درك يمكن الوصول إليه في: “محل ما رحنا مباريانا”. “هاتوا الياسمين هاتوهو”، هذه هي مغبة الإفراط في العوارة، أن تصنع أغنية لا تطاق، أغنية يهرول منها المستمع، ولا ترد أبداً في برنامج قدور، ولا يحيي عظامها حتى الصاعد فرفور. فالحكمة الوحيدة لهذه الأغنية هي أن الأصالة لا يمكن أن توجد في مكان واحد مع “هاتوهو”.
كلما استمعت إلى “لحن الحياة” من عثمان الشفيع، أهتدي إلى حكمتها بالبلبلة التي يسببها المطلع: “لحن الحياة منك، وما تقول نسينا الماضي وصرنا ناسينك، محبوبي الجميل”.
هذا مطلع يخون كل توقع في دقته وصرامته وتجنبه للشرح، لكن الأهم في فرادة بنائه. في عبارة “لحن الحياة منك” تبليغ عميق، ومقاربة فلسفية، واستلهام غني. لكن يحدث قطع، يبدو أنه ضروري، بالقفز من هول التبليغ إلى التحذير اللطيف: “وما تقول نسينا الماضي”. ثمة مسافة روحية بين البيانين، ثمة منزلة بين الاعتراف بالفضل كله، ونفي تهمة التناسي، ثمة صمت خفي، ثمة تعمية وذكاء لا يسمح للعمق بالتعمق أكثر، لا يسمح للمناجاة بالتوغل، فتدفن أشد الإشارات مفارقةً واختلافاً في حقل من البساطات المهمة: ما تقول نسيناك معقولة ياخ! في نهاية الكوبليه الثاني وبداية الثالث تحدث مصادرة صغيرة تكاد تجرّم المحبوب الجميل؛ يلوم عثمان الشفيع حبيبه صراحة: “كيف تنسى كيفنك وإنت الوحيد بالذات الكنا ذاكرنك!” ثم بعدها مباشرةً ينكر على حبيبه لومه: “وفيم الملامة يا روحي”. هكذا هي الأمور في الحياة، ولا يخلو اتصال من شبهة سوء الفهم، والتعكير، والظلم.
البَلَوم الاجتماعي
لكن، ثمة إستراتيجية أخرى تجعل من الغناء انحرافاً غنياً عن الواقع. تعمل الأغاني كمستودع لغوي يؤوي المفردات النادرة، مثل كلمة “بلوم”. يعيش الواحد منا عمراً بحاله في الخرطوم دون أن تشمله رحمة “بلوم”، ولا لمرة واحدة. ظلت “بلوم” مفردة لا اجتماعية قابعة مقيدة لدى الجابري وعبد الرحمن عبد الله وأغنيات عروس قديمة. لم ترد “بلوم” قط، ولا بالغلط، في أي ونسة أو حديث أو كراكتير. هذه الكلمة المهمة، الجميلة، المكتفية بذاتها. إنها كلمة أصيلة تعيش في أغنية أصيلة. كنت أشعر دائماً أن “بلوم” مهددة بالانقراض، لذلك فرحت جداً حين نما إلى علمي أن السودانيين انشغلوا هذه الأيام بتداول مقاطع صوتية قوامها ملاسنات خارجة، بطلاتها عدد من السيدات، ليست السيدة “بلوم” أشهرهن، لكن على الأقل حظي اسمها ببعض التداول. لا يمكن وصف سعادتي بهذه المستجدات. لا يهم السياق ولا الأبطال ولا القصة، ما يهم أن هناك عدداً كبيراً من الناس تعرض بقصد أو دون قصد إلى هذه المفردة، حلقت “بلوم” في الأزقة مرة أخرى، ترددت في الرواكيب، والمطابخ، وممرات الجامعة، وعنابر المستشفيات، والملجات، والكوفيرات، بلوم بلوم بلوم بلوم، لا يمكننا شكر السيدة “بلوم” كفاية على هذه العافية.
الحكمة محجوبة
المعروف أن القصائد الناجحة، ذات المنجز الشعري الواضح لا تصلح للغناء، وذلك لأن الشعر المعترف به لا يقر بالعوارة. ومع تقديري الكبير للنزعة التجديدية في أعمال ساورا، وفي أعمال متفرقة لمغنين مهمين مثل مصطفى سيد أحمد في “عم عبد الرحيم”، وحمزة سليمان في “منفستو الهمباتة”، إلا أن هذه الأعمال تناقض المستقر البدئي لأصالة الأغنية، وهو اللا موقف. الأغنية الأصيلة لا تبشر بشيء، لا تشرح ولا تفلسف، بل تخجل من حكمتها وتحجبها بكل السبل. لا تصدر الأصالة في الغناء حقنا دا عن وجهة نظر، بل عن تهجّد وقلة حيلة وتشفّع وترجٍّ ودعاء ومحاولات شرح يائسة تزداد حكمةً كلما غابت عنها حكمتها: “غايتو بلا مدسة، كنت معاهو هسه، ومشتاق ليهو لسه”. من الرغبة والجنون والمبالغة الفاحشة. من المفاجأة والبغتة والمصيدة “يا قلب أنا كنت قايلك”! من الحيرة والصدمة والتذلل والدردقة في الواطة والتبرؤ والحليفة والقسم: “واللااااهي ما مني، كل الحصل ما مني”! من الاشتراك في الجرم والتواطؤ في الحب والمعاناة والاعتراف بدمعة غير مشاهدة. إنني لا أنزع الفن عن الأغاني التبشيرية، ولا أطعن في يقظتها، لكنني أراها متسقة بشكل مخل، أراها تلزم حكمتها ومناسبتها ووقتها ولا يعول عليها في الرفقة، كما أنها لا تخاطب “الكرعين” ولا “المصارين” ولا تحتفل بـ”الشبط”.
في المقابل تعظم أصالة الأغنية كلما عجت بالتناقضات والدعاوى الملتبسة والقطع غير المنطقي والتشويش على الحكمة الداخلية، كلما التزمت عوارتها، كلما فشَّلَتْ القضية كما فعل محمود تاور في “طيري يا قمرية”. تظهر العوارة في الأغاني السودانية في مستويات تتعدى الكلام المغنى إلى اللحن، والأداء، ومسرحة الأغنية في جسد المغنى. خضر بشير هو بطل هذه المسرحة بلا منازع، لا شيء يشبه هجوم خضر بشير على الميكرفون بشلاليف ضرورية وقاف صحيحة وانصراف صوفي. لكن تظل هناك غمغمة حسن عطية البرجوازية، عمامة ترباس الغرائبية، وكف زيدان إبراهيم المتوسلة. تظل تلك الرعشة في صوت إبراهيم موسى أبا، رعشة تتمزق على مسافة خطرة جداً من النشاز، لكنها لا تنشز أبداً. تظل تلك الابتسامة الفاجرة في عين خليل إسماعيل. تظل تلك النظرة الضائعة في عين الحوت. يظل محمد أحمد عوض محتضناً رقّه.
إن الأغنية الأصيلة مصير تتحكم به مصادفات غير مفهومة. أحياناً يحتاج المغني لعشرات الأغاني للوصول إلى التوليفة الصحيحة. بالمقابل، هناك مغنون لا يعرفون كيف ينتجون أغنية غير أصيلة، مثل عثمان الشفيع. لكن، كثيراً ما تتساكن العوارة مع العبقرية في أقدار فرعية، مثل قدر أن حمد الريح ينتج أغان أصيلة لا يعرف كيف يغنيها بنفسه، لكنه يظل فناناً حقيقياً بفضل أصالة هذه المشكلة. بالمقابل تتنوع مصائر الفنانين. ففي مشيئة الفن أحيا محمود عبد العزيز فن حسن عطية، ثم تجاوزه. بينما استحال على الكثيرين تذكر أي من أغنيات مجايله وليد زاكي الدين، إلى أن فجعنا هذا الشاب بقرار اعتزاله الغناء! يذكرني ذلك بمعجزة صغيرة أخرى حين عُثر على أغنية “يا سغير يا محيرني ومتحير” بعد سنوات من وفاة مغنيها إبراهيم الكاشف. بمجرد العثور عليها تفشت الأغنية بسرعة وتهافت عليها الجمهور المشتاق. يومها ذهب خالي الشاعر حدربي محمد سعد، إلى بتاع الكشك، وقال له: “لو سمحت بلّاهي أدينا شريط الكاشف الجديد”. ارتبك البائع لوهلة…. ثم انفجرا معاً بالضحك!
ـــــــــــــــــــــــ
مرفقات: