ما هي كوبا؟


أجلسُ في صالة الضيوف في بيت ميليه، في أقرب نقطة إليها من الأريكة الجلدية السوداء. تجلس ميليه على مقعد منخفض، عِنْدَ يميني مباشرةً.  كم تبدو بعيدةً مِنِّي بفِعْلِ الدُّخانِ من عِندِ جِهتين مُختلفتَينْ، كما تبدو مغلقةً أكثر على نفسِهَا.

في أول لقاءٍ  طرقتُ بابها. تراجَعتْ خطوةً إلى الوراء، قدمتُ نفسي مشيرة إلى الفراغ خلفي: “جارتُكم الجديدة”. أجابت بنظرة الانزعاج الخفيف. أفهم الغرباء.”دُو يُو اسبِيك إنقِلِشْ؟” قلت. أغلقتْ، من بعدَ ذلكَ، على تَرَدُّدٍ لا يخصنا، باب بيتِهَا.

مضت أسابيعُ ثلجٍ ،تبقت شهورُ ثلجٍ. التقينا ثانيةً  عِندَ الممر. ابتسمتْ لي تحت ضغط الأشياء الواقعية الطارئة. سمعتُ بعدها، فجأةً، صوتها خلفي وأنا أديرُ المفتاح (كانت فيه حواف سلطة ما تهاوت الآن): “جِيتِي”؟ دفعتْ باتِّجاهِي كِيسَ بلاستيكٍ مطبُوعَةٌ عليه عبارة “أيتش- آند- أيم”: “جاكيت شتا جديد، أصغر مني شوية”، قالت. الابتسامة شخصية، لا علاقة لها بالخير.

عطلة نهاية أسبوع آخر، رن الجرس.  فتحتُ البابَ فإذا بميليه تناهد صندوقًا خشبيًا أبيضًا مزركشًا متوسط الحجم وتسُوقُ ثُلَّةً من الناس إلى الداخل: أصدقاءٌ دعتهم هي لتناول القهوة في بيتي أنا.مرت بِي داخلةً فيما كُنتُ أحيِّي ضيوفنا ، ضيوفنا؟  سبقوها ومن ثم سبقوني في الدِّخُولِ إلى “لُبِّ” المنزِلِ: تامرات الزوج، ايلسا، يوهاناس، برهيت، صوفيا، و إياسو.  في أيديهم ألوان مشروباتٍ غازية فاقعة، وأطباقُ طعامٍ مدثرة.  عندما دلفتُ إلى صالة البيتِ الدَّاخليَّةِ كانت ميليه قد وضعت الصندوق الخشبي الأبيض المزركش في مكان ربما كانت تردَّدتْ، لثَوانٍ، في اختياره.  انتبهتْ لحضوري.ألقتْ ناحيتي نظرةً جانبيَّةً سريعةْ. ثم وضعت كرسيًا عِنْد مكانٍ مُعيَّنٍ بالصالة.  صعدت عليه كي تُعطِّل جهاز إنذار الحريق.  بدأت في إخراج طقم القهوة من الصندوق السحري.  اختفَتْ في المطبخ.  شرعتْ في تجهيزِ بعضِ الماء فيمَا انفَكَّ صوتهُا حاضرًا في صالةِ البيتِ الدَّاخليَّةِ. كانت تتحدَّثُ مع الجميع في وقتٍ واحدٍ.  كانت تفيضُ ذاتها، ذات النحورِ الغائمة، على هيئةٍ محسُوبةٍ تدربت عليها لآلاف السنين فيما كُنتُ أنا مُهَوِّدَةً دُونَ وجهةٍ حقيقيةٍ أو غير مجهولة. كُنتُ،بعبارةٍ مُمْكِنَةٍ أخرى، أتحرَّكُ، حينذَاكَ، بتوجيهٍ من ساقين أخرقين.  غيرَ أنَّهُ، لبعضِ حُسنِ حظِّي، أخرجت ميليه، علَيَّ،من صندوقِهَا السِّحريِّ، وصلةً كهربائية، ثُمَّ أوصتْنِي، بنظرةٍ خفيفةٍ، بتوصيلها.  هرولت ألبِّي نداءَ نظرتِهَا وبمعيَّنِي امتناني: منحتني دورًا!

في بيت ميليه جلستْ إليسا عن يساري.  كانت تثرثر مع يوهاناس.  في أقصى اليسار جلس إدواردو- تقدمي من تشيلي.  كان ذاك يتحدث السويدية مع اليسا، والإسبانية مع زوج ميليه؛ تامرات، الذي بدا أنه يبلغ الخامسة والأربعين في هذه اللحظة، بالضَّبطِ، أمامي.  رأسه- تامرات- كانت عاريةً من الشعر، له أسنانٌ أمامية مريضة وحذاءٌ رياضيٌ أبيض، مُزعج النَّظافة.  إنه، أيضًا، هناكَ، يصيدُ أعوامَه، على الحائطِ، في ثلاثِ صور مع ميليه التي لا تظهر فقط وعيًا ضارًا  بلحظة التقاط الصورة بل تهربُ أيضَاً من نظرتها استماتةُ تحويلِ كُلِّ صُورةٍ إلى تاريخٍ سائلٍ منسجم؛ إلى جزءٍ من تلكَ الرمال المتحركة التي نسميها السِّويد.  على الحائط الآخر كانت هنالك سلسلة صور وأعلام بلدان: صورة جيفارا، فيدل كاسترو، علم كوبا؟ ولم لا؟

أفسحتُ المجالَ كي يتمكن إدواردو العائد، للمرَّةِ العاشرةِ، من الحمام،من العودة إلى مقعده.  قرَّرتْ إليسا، بخُبثٍ، أن تُوفِّر على نفسها الإزعاج فانسحبت يسارًا مفسحةً، بذلكَ، له المجال ليجلس مكانها، بقُربِي.  التقطتُ له كأسه، المملوءةُ إلى نصفها بالنبيذ، من عِندِ الطَّرف الآخر من الطاولة.  شعرتُ بإحراج فرحَّبتُ به بصوت أعلى من اللزوم.  أنا الآنَ، حرفيًَّا، في الركن، وعلى دراية لا بأس بها بمصادر جنتي التي تبخرت. رفع إدواردو عينيه فجأة وقال بإنجليزيَّةٍ مُغنَّاة: “ما قصتك؟”.  “ما عندي أي قصة يا إدواردو من شيلي.   عندك لي وحدة؟” قلتُ ضاحكةً.

في يومٍ، يبدو الآنَ بعيداً جداً، عاش تامرات، بأعوامه الخمسة عشر، مع  ديستا.ثم طرق أبونا القسيس نيبايو باب البيت فصرخت ديستا من الطرف الآخر للبيت: “تامرات،تامرات، الباب”.  قال تامرات: “ديستا، ارحميني.لا تصرخي.صوتك يجعل الهواء يهتز.  لا أستطيع.  إذا تحركتُ الآنَ سأفقد الشريط إلى الأبد”. فتح زجاجة طلاء الأظافر الصغيرة المسروقة.  استنشق رائحة الطِّلاء الغريبة الشَّهِيَّة. شرع في لصق شريط الكاسيت المقطوع. تنهَّدَ.شعرَ بِفِعْلِ الهواء الساخن الذي خرج من رئتيه، بأنَّ رائحة إبطيه ستجلب له المشاكل.تنحنح القسُّ، فجأةً، أمام تامرات. فتح منخاريه الصغيرين قليلاً ليقول:

  • تامرات.. بعد أسابيع تذهب إلى كوبا. القائمة الشبابية وصلت منذ ساعات.
  • لن أذهب إلى أي مكان لا يستطيع حماري الذهاب إليه.
  • ما هي كوبا يا أبونا؟ قالت ديستا بحلقٍ جاف.

نهض إدواردو فجأة،ممزقًا مويجات كلماتنا الأخيرة في الجو.أزعجتني حركته السريعة. شعرت بدوار.دار حول الطاولة وانضمَّ من جانبها الآخر، إلى تامرات.لمستْ يدُ ميليه يدي طالبةً  فنجاني الفارغ للمرة الثالثة. نظرتُ إلى يد ميليه وهي تسكب القهوة، ثم تتأكد من لمعانِ الملعقةِ الفضية.  فكَّرتُ في ضياعٍ وارتجافٍ يحدُثانَ في فضاءٍ برِيءٍ عُدوانِي.رفعتُ الفنجان فارتفع وجهي، تلقائيًا، لأجد عيني في عينَي شي جيفارا، مباشرةً.إنها الصورة نفسها التي نراها في كل مكان.هل توجد صورةٌ واحدةٌ فقط لوجه جيفارا؟

نهض تامرات ومشى خطواتٍ باتجاه ميليه.  توقَّفَ فجأة في منتصف المسافة. حجب رأسُه صورةَ جيفارا وحل محلَّها في الإطار.  بدا ذاكَ الكولاجُ طبيعيًا جِدًّا. من غير تفكيرٍ، تقريبًا، قلتُ بصوتٍ هيكلي عظمي مشروخ: “شغِّلُوا لينا موسيقى كوبيَّة”.  توقَّف تامرات عن التنفس ولمحتُ رجفةً خفيفةً في شفته العليا.الصَّمتُ كان عاليًا جدًا ويدور حول مركز خفِيٍّ متحرِّكٍ مثل لعبة قطار موتٍ أو مُزعٍ داخل أحشاء قطة.  صاح إدواردو بانجليزية مسرحية: “كوبا وطن رقم 2”.تناول شخصٌ ما الريموت كنترول وشرع في البحثِ عن أغانٍ كوبيَّة.  وعندما بدأ صوت الساكسفون ينمو في الفراغات تقدم تامرات باتجاه مكان يشبه مركز دائرة انجذابنا وشرعَ في الرَّقص.  لماذا لا ينضمُّ اليه أحد؟  بحثت عيني عن إدواردو من شيلي.  بعد بُرهةٍ تصاعد نشيجٌ حارٌّ من الحمام.  قطع تامرات رقصته وكَرَّ عائدًا إلى مكانه في الإطار.آلام حلقي تفاقمت.توجَّهتْ لي ميليه بعينيها كأنها تُريدُ مواساتي على شيءٍ ما سأفقده.قالت بصوتٍ منخفض: “لم يعد تامرات إلى ديستا أبدًا. أخذوه للتدريب في كوبا أيام منقستو”.  رفعتُ رأسي إلى الجدار.رأيتُ علم كوبا،ثمَّ وجه فيدل كاسترو.  شعرتُ أنَّ لهما رائحةً ما قررتها ميليه بالذات.بدا أن ميليه قد توصَّلتْ، أخيرًا، إلى قرارٍ بشأنِ رائحةِ ومعنى الأشياء.  قالتْ، وهي تُعيدُ حاجيات القهوة إلى داخل الصندوق وتشيرُ، بذقنِها، إلى نقطة ما في الفراغ: “أخذوا من تامرات صورتها، أخذوا صورة ديستا،صورةُ الحمار مزَّقَها بنفسه”.

***

تذكَّرْتُ تلك الزيارة وكُنتُ أُحدِّقُ في ما ظننتُهُ فراغًا حاضرًا أمامِيَ حاليًَّا.  ميليه كانت جميلةً جدًا في ذلك اليوم. وكان التَّعوُّد على جمالها، التعود على صُدفتنا، وما يزالُ، غرابةً هشَّةً تُضيءُ وتُعتِمُ مثلَ شاشةٍ تعرِضُ هلعَنا نُتَفًا، نُتَفًا.انسدل عليها،في “يَومِ الزِّيارَةِ”، فستانها التقليدي الأبيض اللامع المزين بشريط مزركشٍ، أحمرٍ مُبهجٍ ووقور؛ زِيٍّ ملكِيٌّ، في الحقيقة.كانت تجلسُ، في اليومِ إيَّاهُ،على مقعدها الصغير المنخفض.كان ذلك المقعدُ أصغرَ من مؤخرَّتِها المَلكيَّة.ولئن هي، حينذَاكَ، نهضت منه، فجأةً، كانت ستصطدم أرجاءٌ منها بفنجان القهوة في يدي اليمنى.ما كُنتُ قد فعلتُ، وقتَهَا،أيَّ شيءٍ للاحتياط من ذلك.