إلى ناجي البدوي
الإشارة هنا للموسيقى في عبورها المحض، الموسيقى المُخلصة لمنطقها الفني وليست الموسيقى المستخدمة سياسياً. هذه الموسيقى الغافلة الآبقة المُنغمسة في ذاتها هي التي تفعل، وهي وحدها المُؤهَّلة للفعل السياسي، وليس أي موسيقى أخرى. الإصغاء لمغامرة الفن، للموهبة وأشواق ما هو غير مُعيَّن بسياق تاريخي يُخلِّص العمل الموسيقي من لحظته، ويُحوِّله إلى ماردٍ فضيلته الأساسية التخريب. تخرب الموسيقى الحقيقية، بمثابة قناص، اللحظة الخربة التي تحتاج وتستجدي التخريب. تغتال الموسيقى الحُرَّة الذوق المُستعبد، تُعيد النظرة الهاربة إلى جحيمها المُتفاقم، تُحوِّل الجحيم الشخصي المُحتمل إلى جحيمٍ غير شخصيٍّ وغير محتمل، وتُخرِّب الأكاذيب التي يتعيَّش عليها الأمل الرَّخيص والرِّضا. ما الذي يُحرِّك الجموع؟ ليس الجوع ولا الغبن ولا الأمل، ما يحركها هو الإحراج، النزف المُكتوِّم الذي لم يعد من الممكن الهرب من التحديق فيه، وهذا هو بالضبط ما يخلقه الفن العظيم. يتجاوز المُغنِّي لحظته ، وجمهوره وحنجرته، وموسيقاه وعازفيه، وفيزياء تتماهى مع، وتخدم الخنوع والقانون والعُرف؛ إلى لحظة مصيريَّة مُعلَّقة في فضاءٍ حُرٍّ لا يقبل ولا يستجيب إلا لإدماء الحُريَّة. في هذا الفضاء يحمل المُغنِّي جثَّته وجُثَّة جمهوره، ويختبر مُتوحِّداً فيهم صواعق وأهوال الصدق؛ غير عابئٍ برُوحه ولا حريص على لقيَّتِه. ما إن يتذوق الجمهور تلك التفاحة المُحرَّمة لا يعود قادراً على البقاء في جنَّة الطاعة، لا يعود الأمل كافياً، ولا السلامة المطلب. لا تعود الصداقة ولا العائلة ملجأً كافياً، ولا الغياب في الجنس، أو الحب أو الأمومة غياباً. يتحول كُلُّ جميلٍ ومحبوبٍ وعزيزٍ إلى ململة أشواق تُحقُّقِه في كماله الأقصى. يستيقظ الممكن والإمكان. يتحوَّل الهمسُ إلى فراشة تبحث بدأب عن نارها، والحذر إلى شهوة تحتضر. عندما يتوحد الفنُّ، ينفصل وينقطع ويتصل، مع تخوم حرائقه خادماً فقط ملذَّاته وشكوكه في جدارته وصدقيَّته؛ عندها فقط يكون الفنُّ سياسياً. نحن بحاجة إلى فنٍّ عظيم يجعل من الحياة – والتي هي كُلُّ ما نملك – لحظةً مشكوكاً فيها، كذبة، جحيماً من الإحراج الروحي لا يمكن تفاديه ولا التعاطي معه، هذه اللحظة المُنتحرة هي اللحظة الصحيحة والصحيَّة لولادة الغد، عندها فقط يمكن أن يبدأ التفكير، مُنهكاً وضعيفاً وقويَّاً مثل جنين، في كيف يستعيد الفرد روحه من الابتذال والوضاعة، أي البداية الحقيقية للتحول السياسي. هذا هو بالضبط ما فعلته اريثا فرانكلين، وبيلي هوليداي في أمريكا الفصل التعسُّفي، وهو ما جعل حركة الحقوقِ المدنيَّة مارداً حالماً تُحرِّكُه أصوات المُغنِّيات السود.